فصل: الخبر عن آل زيري بن عطية ملوك فاس وأعمالها من الطبقة الأولى من مغراوة وما كان لهم بالمغرب الأقصى من الملك والدولة ومبادىء ذلك وتصاريفه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن آل زيري بن عطية ملوك فاس وأعمالها من الطبقة الأولى من مغراوة وما كان لهم بالمغرب الأقصى من الملك والدولة ومبادىء ذلك وتصاريفه:

كان زيري هذا أمير آل خزر في وقته ووارث ملكهم البدوي وهو الذي مهد الدولة بفاس والمغرب الأقصى وأورثها بنيه إلى عهد لمتونة حسبما نستوفي في شرحه واسمه زيري بن عطية بن عبد الرحمن بن خزر وجده عبد الله أخو محمد داعية الناصر الذي هلك بالقيروان كما ذكرناه وكانوا أربعة أخوة محمد ومعبد الذي قتله إسماعيل وفلفول الذي خالف محمدا إلى ولاية الشيعة وعبد الله هذا وكان يعرف بأمه اسمها تبادلت وقد قيل إن عبد الله هذا هو ابن محمد بن خزر وأخوه حمزة بن محمد الهالك في حربه مع ميسور عند فتح تاهرت ولما هلك الخير بن محمد كما قلناه بيد بلكين سنة إحدى وستين وثلثمائة وارتحلت زناتة إلى ما وراء ملوية من المغرب الأقصى وصار المغرب الأوسط كله لصنهاجة واجتمع مغراوة إلى بقية آل خزر وأمرؤهم يومئذ محمد بن خير المذكور ومقاتل وزيري ابنا مقاتل بن عطية بن عبد الله وخزرون بن فلفول.
ثم كان ما ذكرناه من ولاية بلكين بن زيري على أفريقية وزحف إلى المغرب الأقصى زحفه المشهور سنة تسع وستين وثلثمائة وأجفلت أمامه ملوك زناتة من بنى خزر وبني محمد بن صالح وانحازوا جميعا إلى سبتة وأجاز محمد بن الخير البحر إلى المنصور بن أبي عامر صريخا فخرج المنصور في عساكره إلى الجزيرة ممدا لهم بنفسه وعقد لجعفر بن علي على حرب بلكين وأجازه البحر وأمده بمائة حمل من المال فاجتمعت إليه ملوك زناتة وضربوا مصافهم بساحة سبتة وأطل عليهم بلكين من جبل تطاون فرأى ما لا قبل له به فارتحل عنهم وأشغل نفسه بجهاد برغواطة إلى أن هلك منصرفا من المغرب سنة اثنتين وسبعين وثلاثة كما ذكرناه.
وعاد جعفر بن علي إلى مكانه من الحضرة وساهمه المنصور في حمل الرياسة وبقي المغرب غفلا من الولاية واقتصر المنصور على ضبط سبتة ووكل إلى ملوك زناتة دفاع صنهاجة وسائر أولياء الشيعة وقام يبلو طاعنتهم إلى أن قام بالمغرب الحسن بن كنون من الأدارسة بعثه العزيز نزار من مصر لاسترجاع ملكه بالمغرب وأمده بلكين بعسكر من صنهاجة وهلك على تفيئة ذلك بلكين ودعا الحسن إلى أمره بالمغرب وانضم إليه بدوي ابن يعلى بن محمد اليفرني وأخوه زيري وابن عمه أبو يداس فيمن إليهم من بني يفرن فسرح المنصور لحربه ابن عمه أبا الحكبم عمرو بن عبد الله بن أبي عامر الملقب عسكلاجه وبعثه بالعساكر والأموال فأجاز البحر انحاش إليه ملوك آل خزر محمد بن الخير ومقاتل وزيري ابناء عطية وخزرون بن فلفول في جميع مغراوة وظاهروه على شأنه وزحف بهم أبو الحكم بن أبي عامر إلى الحسن بن كنون حتى الجؤه إلى الطاعة وسأل الأمان على نفسه فعقد له عمرو بن أبي عامر ما رضيه من ذلك وأمكن به من قياده وأشخصه إلى الحضرة فكان من قتله وإخفار ذمة أبي الحكم بن أبي عامر وقتله بعده ما تقدم حسبما ذكرنا ذلك من قبل.
وكان مقاتل وزيري ابنا عطية من بين ملوك زناتة أشد الناس انحياشا للمنصور قياما بطاعة المروانية وكان بدوي بن يعلى وقومه بنو يفرن منحرفين عن طاعتهم ولما انصرف أبو الحكم بن أبي عامر من المغرب عقد المنصور عليه للوزير حسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي وأطلق يده في انتقاء الرجال والأموال فأنفذه إلى عمله سنة ست وسبعين وثلثمائة وأوصاه بملوك مغراوة من زناتة واستبلغ بمقاتل وزيري من بينهم لحسن انحياشهم وطاعتهم وأغراه ببدوي بن يعلى المضطرب الطاعة الشديد المراوغة فنفذ لعمله ونزل بفاس وضبط أعمال المغرب واجتمعت إليه ملوك زناتة.
وهلك مقاتل بن عطية سنة ثمان وسبعين وثلثمائة واستقل برياسة الظواعن البدو من مغراوة أخوة زيري بن عطية وحسنت مخاللته لابن عبد الودود صاحب المغرب وانحياشه بقومه إليه واستدعاه المنصور من محله بفاس سنة إحدى وثمانين وثلثمائة إشادة بتكريمه وأغراه ببدوي بن يعلى بمنافسته في الحظ وإيثار الطاعة فبادر إلى إجابته بعد أن استخلف على المغرب ابنه المعز وأنزله بتلمسان ثغر المغرب وولى على عدوة القرويين من فاس علي بن محمود بن أبي علي قشوش وعلى عدوة الأندلسيين عبد الرحمن بن عبد الكريم بن ثعلبة وقدم بين يديه هدية إلى المنصور ووفد عليه فاستقبله بالجيوش والعدة واحتفل للقائه وأوسع نزله وجرايته ونوه باسمه في الوزارة وأقطعه رزقها وأثبت رجاله في الديوان ووصله بقيمة هديته وأسنى فيها وأعظم جائزته وجائزة وفده وعجل تسريحه إلى عمله فقفل إلى إمارته من المغرب ونمي عنه خلاف ما احتسب فيه من غمط المعروف إنكار الصنيع والاستنكاف من لقب الوزارة الذي نوه به حتى أنه قال لبعض حشمه وقد دعاه بالوزير: وزير من يالكيع فما والله إلا أمير ابن أمير واعجبا من ابن أبي عامر ومخرقته والله لو كان بالأندلس رجل ما تركه على حاله إن له منا ليوما والله لقد تأجرني فما أهديت إليه حطا للقيم ثم غالطني بما بذله تنبيتا للكرم إلا أن يحتسب بثمن الوزارة التي حطني بها عن رتبتي ونمي ذلك إلى ابن أبى عامر فصر عليها أذنه وزاد في اصطناعه وبعث بدوي بن يعلى اليفرني قريعه في ملك زناتة يدعوه إلى الوفادة فأساء إجابته وقال: متى عهد المنصور حمر الوحش تنقاد للبياطرة وأخذ في إفساد السابلة والاجلاب على الأحياء والعيث في العمالة فأوعز المنصور إلى عامله بالمغرب الوزير حسن بن عبد الودود بنبذ العهد إليه ومظاهرة عدوه زيري بن عطية عليه فجمعوا له سنة إحدى وثمانين وثلثمائة ولقوه فكانت الدائرة عليهم وتحزم العسكر وأثبت الوزير ابن عبد الودود جراحة كان فيها حتفه وبلغ الخبر إلى المنصور فشق عليه وأمه شأن المغرب وعقد عليه لوقته لزيري بن عطية وكتب إليه بعهده وأمر بضبط المغرب ومكانفة جند السلطان وأصحاب حسن بن عبد الودود فاطلع بأعبائه وأحسن الغناء في عمله.
واستفحل شأن بدوي بن يعلى وبني يفرن واستغلظوا على زيري بن عطية وأصلوه نار الفتنة وكانت حروبهم سجالا وسئمت الرعايا بفاس كثرة تعاتهبم عليها وانتزاؤهم على عملها وبعث إليه لزيري بن عطية ومغراوة مددا من أبي البهار بن زيري بن مناد بما كان انتقض على ابن أخيه منصور بن بلكين صاحب القيروان وأفريقية ونزع عن دعوة الشيعة إلى المروانية واقتفى أثره في ذلك خلوف بن أبي بكر صاحب تاهرت وأخوه عطية لصهر كان بينهما وبين زبري فاقتسموا أعمال المرب الأوسط ما بين الزاب وأنشريس ووهران وخطبوا في سائر منابرها باسم هشام المؤيد وخاطب أبو البهار من وراء البحر محمد بن أبي عامر وأوفد عليه أبا بكر بن أخيه خبوس بن زيري في طائفة من أهل بيته ووجوه قومه فاستقبلوا بالجيش ولقاه رحبا وتسهيلا وأعظم موصله وأسنى جوائز وفده وصلاتهم وأنفذ معه إلى عمه أبي البهار بخمسمائة قطعة من صنوف الثياب الخز والعبيد وما قيمته عشرة آلاف درهم من الآنية والحلى وبخمسة وعشرين ألفا من الدنانير ودعاه إلى مظاهرة زيرى بن عطية على بدوي بن يعلى وقسم بينهما أعمال المغرب شق الأبلمة حتى لقد اقتسما مدينة فاس عدوة بعد عدوة فلم يرع ذلك بدوي ولا وزعه عن شأنه من الفتنة والاجلاب على البدو والحاضرة وشق عصا الجماعة وانتقض خلوف بن أبي بكر على المنصور لوقته وراجع ولاية المنصور بن بلكين.
ومرض أبو البهار في المظاهرة عليه للوصلة التي بينهما وقعد عما قام له زيري بن عطية من حرب خلوف بن أبي بكر وأوقع به زيري في رمضان سنة إحدى وثمانين وثلثمائة واستلحمه وكثيرا من أوليائه واستولى على عسكره وانجاش إليه عامة أصحابه وفر عطية شريدا إلى الصحراء ثم نهض على أثرها لبدوي بن يعلى وقومه فكانت بينهم لقاءات انكشف فيها أصحاب بدوى واستلحم منهم زهاء ثلاثة آلاف واكتسح معسكره وسبيت حرمه التي كانت منهن أمه وأخته وتحيز سائر أصحابه إلى فئة زيري وخرج شريدا إلى الصحراء إلى أن اغتاله ابن عمه أبو يداس بن دوناس كما ذكرناه وورد خبر الفتحين متعاقبين على المنصور فعظم موقعهما لديه وقد قيل إن مقتل بدوي إنما كان عند إياب زيري من الوفادة وذلك أنه لما استقدمه المنصور ووفد عليه كما ذكرناه خالفه بدوي إلى فاس فملكها وقتل من مغراوة خلقا واستمكن بها أمره فلما رجع زيري من وفادته امتنع بها بدوي فنازله زيري وطال الحصار وهلك من الفريقين خلق ثم اقتحمها عليه عنوة وبعث برأسه إلى سدة الخلافة بقرطبة إلا أن راوي هذا الخبر يحعل وفادة زيري على المنصور وقتله لبدوي سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة فالله أعلم أي ذلك كان.
ثم إن زيري فسد ما بينه وبين أبي البهار الصنهاجي وتزاحفا فأوقع به زيري وانهزم أبو البهار إلى سبتة موريا بالعبور إلى المنصور فبادر بكاتبه عيسى بن سعيد بن القطاع في قطعة من الجند إلى تلقيه فحاد عن لقائه وصاعد إلى قلعة جراوة وقد قدم الرسل إلى ابن أخيه المنصور صاحب القيروان مستميلا إلى أن التحم ذات بينهما ثم تحيز إليه وعاد إلى مكانه من عمله وخلع ما تمسك به من طاعة الأموية وراجع طاعة الشيعة فجمع المنصور لزيري بن عطية أعمال المغرب واستكفى به في سد الثغر وعول عليه من بين ملوك المغرب في الذب عن الدعوة وعهد إليه بمناجزة أبي البهار وزحف إليه زيري في أمم عديدة من قبائل زناتة وحشود البربر وفر أمامه ولحق بالقيروان واستولى زيري على تلمسان وسائر أعمال أبي البهار وملك ما بين السوس الأقصى والزاب فاتسع ملكه وانبسط سلطانه واشتدت شوكته وكتب بالفتح إلى المنصور بمائتين من الخيل وخمسين جملا من المهاري السبق وألف درقة من جلود اللمط وأحمال من قسي الزان وقطوط الغالية والزرافة وأصناف الوحوش الصحراوية كاللمط وغيره وألف حمل من التمر وأحمال من ثياب الصوف الرفيعة كثيرة فجدد له عهده على المغرب سنة إحدى وثمانين وثلثمائة وأنزل أحياءه بأنحاء فاس في قياطينهم.
واستفحل أمر زيري بالمغرب ودفع بني يفرن عن فاس إلى نواحي سلا واختط مدينة وجدة سنة أربع وثمانين وثلثمائة وأنزلها عساكره وحشمه واستعمل عليها ذويه ونقل إليه ذخيرته وأعدها معتصما وكانت ثغرا للعمالتين المغرب الأقصى والأوسط.
ثم فسد ما بينه وبين المنصور بما نمي عنه من التألف لهشام باستبداد المنصور عليه فسامه المنصور الهضيمة وأبى منها وبعث كاتبه ابن القطاع في العساكر فاستعصى عليه وأمكنه صاحب قلعة حجر النسر منها فأشخصه إلى الحضرة وأحسن إليه المنصور وسماه الناصح وكشف زيري وجهه في عداوة ابن أبي عامر والإغراء به والتشيع لهشام المؤيد والامتعاض له من هضيمته وحجره فسخطه عند ابن أبي عامر وقطع عنه رزق الوزارة ومحى اسمه من ديوانه ونادى بالبراءة منه وعقد لواضح مولاه على المغرب وعلى حرب زيري بن عطية وانتقى له الحماة من سائر الطبقات وأزاح عللهم وأمكنه من الأموال للنفقات وأحمال السلاح والكسي وأصحبه طائفة من ملوك العدوة كانوا بالحضرة منهم: محمد بن الخير ابن محمد بن الخير وزيري بن خرر وابن عمهما بكساس بن سيد الناس ومن بني بفرن أبو بخت بن عبد الله بن بكار ومن مكناسة إسماعيل بن البوري ومحمد بن عبد الله بن مدين ومن أزداجة خزرون بن محمد وأمده بوجوه الجند وفصل من الحضرة سنة سبع وثمانين وثلثمائة وسار في التعبية وأجاز البحر إلى طنجة فعسكر بوادي ردات وزحف زيري بن عطية في قومه فعسكر إزاءه وتواقفا ثلاثة أشهر واتهم واضح رجالات بني مرزال بالادهان فأشخصهم إلى الحضرة وأغرى بهم المنصور فوبخهم وتنصلوا فصفح عنهم وبعثهم في غير ذلك الوجه ثم تناول واضح حصن أصيلا ونكور فضبطهما واتصلت الوقائع بينه وبين زيري وبيت واضح معسكر زيري بنواحي أصيلا وهم غازون فأوقع بهم وخرج ابن أبي عامر من الحضرة لاستشراف أحوال واضح وإمداده فسار في التعبية واحتل بالجزيرة عند فرضة المجاز ثم بعث عن ابنه المظفر من مكان استخلافه بالزاهرة وأجاز إلى العدوة واستكمل معه أكابر أهل الخدمة وجلة القواد وقفل المنصور إلى قرطبة واستراع خبر عبد الملك بالمغرب ورجع إليه عامة أصحاب زيري من ملوك البربر وتناولهم من إحسانه وبره ما لم يعهدوا مثله.
وزحف عبد الملك إلى طنجة واجتمع مع واضح وتلوم هناك مزيحا لعلل العسكر فلما استتم تدببره زحف في جمع لا كفاء له فلقيه زيري بوادي منى من أحواز طنجة في شوال سنة ثمان وثمانين وثلثمائة فدارت بينهم حروب شديدة وهم فيها أصحاب عبد الملك وثبت هو وبينما هم في حومة الحرب إذ طعن زيري بعض الموثورين من أتباعه اهتبل الغرة في ذلك الموقف فطعنه ثلاثا في نحره أشواه بها ومر يشتد نحو المظفر وبشره فاستكذبه لثبوت رايته تم سقط إليه الصحيح فشد عليهم فاستوت الهزيمة وأثخن فيه بالقتل واستولى على ما كان في عسكرهم مما يذهب فيه الوصف ولحق زيري بفاس جريحا في قلة فامتنع عليه أهلها ودافعوه بحرمه فاحتملهن وفر أمام العساكر إلى الصحراء وأسلم جميع أعماله وطير عبد الملك بالفتح إلى أبيه فعظم موقعه عنده وأعلن بالشكر لله والدعاء وبث الصدقات وأعتق الموالي وكتب إلى ابنه عبد الملك بعهده على المغرب فأصلح نواحيه وسد ثغوره وبعث العمال في جهاته: فأنفذ محمد بن الحسن بن عبد الودود في جند كثيف إلى تادلا واستعمل حميد بن يصل المكناسي على سجلماسة فخرج كل لوجهه واقتضوا الطاعة وحملوا إليه الخراج وأقفل المنصور ابنه عبد الملك في جمادى من سنة سبع وثمانين وثلثمائة وعقد على المغرب لواضح فضبطه واستقام على تدبيره ثم عزله في رمضان من سنته بعبيد الله ابن أخيه يحيى ثم ولى عليه من بعده إسماعيل بن البوري ثم من بعده أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي إلى أن هلك المنصور وأعاد المظفر بن المعز بن زيري من منتبذه بالمغرب الأوسط لولاية أبيه بالمغرب فنزل فاس وكان من خبر زيري أنه لما استقل من نكبته وهزيمة عبد الملك إياه واجتمع إليه بالصحراء فل مغراوة وبلغه اضطراب صنهاجة واختلافهم على باديس بن المنصور بعد مهلك أبيه وأنه خرج عليه بعد عمومته مع ماكسن بن زيري فصرف وجهه حينئذ إلى أعمال صنهاجة يتنهز فيها الفرصة واقتحم المغرب الأوسط ونازل تاهرت وحاصر بها يطوفت بن بلكين وخرج باديس من القيروان صريخا له فلما مر بطبنة امتنع عليه فلفول بن خزرون وخالفه إلى أفريقية فشغل بحربه وكان أبو سعيد بن خزرون لحق بأفريقية وولاه المنصور على طبنة كما نذكره فلما انتقض سار إليه باديس ودفع حماد بن بلكين في عساكر صنهاجة إلى مدافعة زيري بن عطية فالتقيا بوادي ميناس قرب تاهرت فكانت الدبرة على صنهاجة واحتوى زيري على معسكرهم واستلحم ألوفا مهنم وفتح مدينة تاهرت وتلمسان وشلف وتنس والمسيلة وأقام الدعوة فيها كلها للمؤيد هثام ولحاجبه المنصور من بعده.
ثم اتبع آثار صنهاجة إلى أشير قاعدة ملكهم فأناخ عليها واستأمن إليه زاوي بن زيري ومن معه من أكابر أهل بيته المنازعين لباديس فأعطاه منه ما سأل وكتب إلى المنصور بذلك يسترضيه ويشترط على نفسه الرهن والاستقامة إن أعيد إلى الولاية ويسنأذنه في قدوم زاوي وأخيه خلال فأذن لهما وقدما سنة تسعين وثلثمائة وسأل أخوهما أبو البهار مثل ذلك وأنفذ رسله يذكر تقديمه فسوفه المنصور لما سبق من نكنه واعتل زيري بن عطية وهو بمكانه من حصار أشير فأفرج عنها وهلك في منصرفه سنة إحدى وتسعين وثلثمائة واجتمع آل خزر وكافة مغراوة من بعده على ابنه المعز بن زيري فبايعوه وضبط أمرهم وأقصر عن محاربة صنهاجة ثم استجدى للمنصور واعتلق بالدعوة العامرية وصلحت حاله عندهم وهلك المنصور خلال ذلك ورغب المعز من ابنه عبد الملك المظفر أن يعيده إلى عمله على مال يحمله إليه وعلى أن يكون ولده معنصر رهينة بقرطبة فأجابه إلى ذلك وكتب له عهد وأنفذ به وزيره أبا علي بن خديم ونسخته: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وآله من الحاجب المظفر سيف الدولة دولة الامام الخليفة هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين أطال الله بقاءه عبد الملك بن المنصور بن أبي عامر إلى كافة مدنيي فاس وكافة أهل المغرب سلمهم الله أما بعد أصلح الله شأنكم وسلم أنفسكم وأديانكم فالحمد لله عللم الغيوب وغفار الذنوب ومقلب القلوب ذي البطش الشديد المبديء المعبد الفعال لما يريد لا راد لأمره ولا معقب لحكمه بل له الملك والأمر وبيده الخير والشر إياه نعبد وإياه نستعين وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين وجميع الأنبياء والمرسلين والسلام عليكم أجمعين.
وإن المعز بن زيري بن عطية أكرمه الله تابع رسله لدينا وكتبه متنصلا من هنات دفعته إليها ضروارت ومستغفرا من سيئات حطتها من توبته حسنات والتوبة محاء الذنب والاستغفار منقذ من العيب وإذا أذن الله بشيء يسره وعسى أن تكرهوا شيئا ولكم فيه خير وقد وعد من نفسه استشعار الطاعة ولزوم الجادة واعتقاد الاستقامة وحسن المعونة وخفة المؤنة فوليناه ما قبلكم وعهدنا إليه أن يعمل بالعدل فيكم وأن يرفع أعمال الجور عنكم وأن يعمر سبلكم وأن يقبل من محسنكم ويتجاوز عن مسيئكم إلا في حدود الله تبارك وتعالى وأشهدنا الله عليه بذلك وكفي بالله شهيدا وقد وجهنا الوزير أبا علي بن خديم أكرمه الله وهو من ثقاتنا ووجوه رجالنا ليأخذ بشأنه ويؤكد العهد فيه عليه بذلك وأمرناه بإشراككم فيه ونحن بأمركم معتنون وأحوالكم مطالعون وأن يقضي على الأعلى للأدنى ولا يرتضي فيكم بشيء من الأدنى فثقوا بذلك وأسكنوا إليه وليمض القاضي أبو عبد الله أحكامه مشدودا ظهره بنا معقودا سلطانه بسلطاننا ولا تأخذه في الله لومة لائم فذلك طبنا به إذ وليناه وأملنا فيه اذ قلدناه والله المستعان وعليه التكلان لا إله إلا هو وتبلغوا منا سلاما طيبا جزيلا ورحمة الله وبركاته كتب في ذي القعدة من سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
ولما وصل إلى المعز بن زيري عهد المظفر بولايته على المغرب ماعدا كورة سجلماسة فإن واضحا مولى المنصور عهد في ولايته على المغرب بها لواندين بن خزرون بن فلفول حسبما نذكره فلم تدخل في ولاية المعز هذه فلما وصله عهد المظفر ضم نشره وثاب إليه نشاطه وبث عماله في جميع كور المغرب وجبي خراجها ولم تزل ولايته متسقة وطاعة رعاياه منتظمة.
ولما افترق أمر الجماعة بالأندلس واختل رسم الخلافة وصار الأمر فيها طوائف استحدث المعز في التغلب على سجلماسة وانتراعها من أيدي بنى واندين بن خزرون فأجمع لذلك ونهض إليه سنة سبع وأربعمائة وبرزوا إليه في جموعهم فهزموه ورجع إلى فاس في فل من قومه وأقام على الاضطراب من أمره إلى أن هلك سنة سبع عشرة وأربعمائة وولي من بعده ابن عمه حمامة بن المعز بن عطية وليس كما يزعم بعض المؤرخين أنه ابنه وإنما هو اتفاق في الأسماء أوجب هذا الغلط فاستولى حمامة هذا على عملهم واستفحل ملكه وقصده الأمراء والعلماء وأتته الوفود ومدحه الشعراء ثم نازعه الأمر أبو الكمال تميم بن زيري بن يعلى اليفرني سنة أربع وعشرين وأربعمائة من بني يدوي بن يعلى المتغلبين على نواحي سلا وزحف إلى فاس في قبائل بني يفرن ومن انضاف إليهم من زناتة.
وبرز إليه حمامة في جموع مغراوة ومن إليهم فكانت بينهم حروب شديدة اجلت عن هزيمة حمامة ومات من مغراوة أمم واستولى تميم على فاس وأمال المغرب ولما دخل فاس استباح يهود وسبى حرمهم واصطلم نعمتهم ولحق حمامة بوجدة فامتد من هنالك من قبائل مغراوة من أنجاد مديونة وملوية وزحف إلى فاس فدخلها سنة سبع وعشرين وأربعمائة وتحيز تميم إلى موضع إمارته من سلا وأقام حمامة في سلطان المغرب وزحف إليه سنة ثلاثين وأربعمائة القائد ابن حماد صاحب القلعة في جموع صنهاجة وخرج إليه مجمعا حربه وبث القائد عطاءه في زناتة وأستعبدهم على صاحبهم حمامة فأقصر عن لقائه ولاذ منه بالسلم والطاعة رجع القائد عنه ورجع هو إلى فاس وهلك سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة فولي بعده ابنه دوناس ويكنى أبا العطاف واستولى على فاس وسائر عمل أبيه وخرج عليه لأول أمره حماد ابن عمه معنصر بن المعز فكانت له معه حروب ووقائع وكثرت جموع حماد فغلب دوناس على الضواحي وأحجره بمدينة فاس وخندق دوناس على نفسه الخندق المعروف بسياج حماد وقطع حماد جرية الوادي عن عدوة القرويين إلى أن هلك محاصرا لها سنة خمس وثلاثين وأريعمائة فاستقامت دولة دوناس وانفسحت أيامه وكثر العمران ببلده واحتفل في تشييد المصانع وأدار السور على أرباضها وبنى بها الحمامات والفنادق فاستبحر عمرانها ورحل التجار إليها بالبضائع وهلك دوناس سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وولي بعده ابنه الفتوح ونزل بعدوة الأندلس ونازعه الأمر أخوه الأصغر عجيسة وامتنع بعدوة القرويين وافترق أمره بافتراقهما وكانت الحرب بينهما سجالا ومجالها بين المدينتين حيث يفضي باب النقبة بعدوة القرويين لهذا العهد وشيد الفتوح باب عدوة الأندلس وهو مسمى به إلى الآن واختط عجيسة باب الجيسة وهو أيضا مسمى به وإنما حذفت عينه لكثرة الاستعمال وأقاموا على ذلك إلى أن غدر الفتوح بعجيسة أخيه سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وبيته فظفر به وقتله ودهم المغرب أثر ذلك على ما دهمه من أمر المرابطين من لمتونة وخشي الفتوح مغبة أحوالهم فأفرج عن فاس وزحف صاحب القلعة بلكين بن محمد بن حماد إلى المغرب سنة أربع وخمسين وأربعمائة على عادتهم في غزوه ودخل فاس واحتمل من أكابرهم وأسرافهم رهنا على الطاعة وقفل إلى قلعته ر ولى على المغرب بعد الفتوح معنصر بن حماد بن معنصر وشغل بحروب لمتونة وكانت له عليهم الوقعة المشهورة سنة خمس وخمسين وأربعمائة ولحق بضرية وملك يوسف بن تاشفين والمرابطون فاس وخلف عليها عامله وارتحل إلى غمارة فخالفه معنصر إلى فاس وملكها وقتل العامل ومن معه من لمتونة ومثل بهم بالحرق والصلب ثم زحف إلى مهدي ابن يوسف الكترنائي صاحب مدينة مكناسة وقد كان دخل في دعوة المرابطين فهزمه وقتله وبعث برأسه إلى سكوت البرغواطي الحاجب صاحب سبتة وقد بلغ الخبر إلى يوسف بن تاشفين فسرح عساكر المرابطين لحصار فاس فأخذوا بمخنقها وقطعوا المرافق عنها حتى اشتد بأهلها الحصار ومسهم الجهد وبرز معنصر لإحدى الراحتين فكانت الدبرة عليه وفقد في الملحمة ذلك اليوم سنة ستين وأربعمائة وبايع أهل فاس من بعده لابنه تميم بن معنصر فكانت أيامه أيام حصار وفتنة وجهد وغلاء وشغل يوسف بن تاشفين عنهم بفتح بلاد غمارة حتى اذا كان سنة اثنين وستين وأربعمائة وفرغ من فتح غمارة صمد إلى فاس فحاصرها أياما ثم اقتحمها عنوة وقتل بها زهاء ثلاثة آلاف من مغراوة وبني يفرن ومكناسة وقبائل زنانة وهلك تميم في جملتهم حتى أعوزت مواراتهم فرادى فاتخذت لهم الأخاديد وقبروا جماعات وخلص من نجا من القتل منهم إلى تلمسان وأمر يوسف بن تاشفين بهدم الأسوار التي كانت فاصلة ببن العدوتين وصيرهما مصرا وأدار عليهما سورا واحدا وانقرض أمر مغراوة من فاس والبقاء لله سبحانه وتعالى.